سورة المسد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المسد)


        


{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}
اعلم أن قوله: {تَبَتْ} فيه أقاويل أحدها: التباب الهلاك، ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] أي في هلاك، والذي يقرر ذلك أن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال: هلكت وأهلكت، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك، فدل على أنه كان صادقاً في ذلك، ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلاً في الإيمان، أو إن كان داخلاً لكنه أضعف أجزائه، فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك، ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل، وحصل وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل، فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك، فلهذا قال: {تَبَتْ}.
وثانيها: تبت خسرت، والتباب هو الخسران المفضي إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر: {غير تخسير} [هود: 63].
وثالثها: تبت خابت، قال ابن عباس: لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله: إنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهماً فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك، فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه، ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه، فيقول: انصرف راشداً فإنه مجنون، فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع.
ورابعها: عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه.
وخامسها: عن ابن وثاب؛ صفرت يداه على كل خير، وإن قيل: ما فائدة ذكر اليد؟ قلنا: فيه وجوه:
أحدها: ما يروى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله، روي عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه، لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت: من هذا، فقالوا: محمد وعمه أبو لهب.
وثانيها: المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] ومنه قولهم: يداك أو كتا، وقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وهذا التأويل متأكد بقوله: {وَتَبَّ}.
وثالثها: تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه، أو لأن بإحدى اليدين تجر المنفعة، وبالأخرى تدفع المضرة، أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة.
ورابعها: روي أنه عليه السلام لما دعاه نهاراً فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذراً فجلس النبي عليه السلام أمامه كالمحتاج، وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت»، فقال: لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي، فقال عليه الصلاة والسلام للجدي: «من أنا؟» فقال: رسول الله. وأطلق لسانه يثني عليه، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تباً لك أثر فيك السحر، فقال الجدي: بل تباً لك فنزلت السورة على وفق ذلك: تبت يدا أبى لهب لتمزيقه يدي الجدي.
وخامسها: قال محمد بن إسحاق: يروى أن أبا لهب كان يقول: يعدني محمد أشياء، لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت، فلم يضع في يدي من ذلك شيئاً، ثم ينفخ في يديه ويقول: تباً لكما ما أرى فيكما شيئاً، فنزلت السورة.
أما قوله تعالى: {وَتَبَّ} ففيه وجوه:
أحدها: أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب.
وثانيها: كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله، وبالثاني هلاك نفسه ووجهه أن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين.
وثالثها: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} يعني ماله ومنه يقال: ذات اليد {وَتَبَّ} هو بنفسه كما يقال: {خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} [الزمر: 15] وهو قول أبي مسلم.
ورابعها: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} يعني نفسه: {وَتَبَّ} يعني ولده عتبة على ما روي أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة: بلغوا محمداً عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى، وروي أنه قال ذلك في وجه رسول الله وتفل في وجهه، وكان مبالغاً في عداوته، فقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريباً من الصبح، فقال له أصحابه: هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فسلط الله عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه، فإن قيل: نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة، وقوله: {وَتَبَّ} إخبار عن الماضي، فكيف يحمل عليه؟ قلنا: لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك.
وخامسها: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} حيث لم يعرف حق ربه {وَتَبَّ} حيث لم يعرف حق رسوله وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لماذا كناه مع أنه كالكذب إذ لم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم؟ والجواب: عن الأول أن التكنية قد تكون اسماً، ويؤيده قراءة من قرأ (تبت يدا أبو لهب) كما يقال: علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان، فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم، وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه:
أحدها: أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم.
والثاني: أنه كان اسمه عبد العزي فعدل عنه إلى كنيته.
والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته، فكان جديراً بأن يذكر بها، ويقال أبو لهب: كما يقال: أبو الشر للشرير وأبو الخير للخير.
الرابع: كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به واحتقاراً له.
السؤال الثاني: أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم، فكيف يليق به أن يشافه عمه بهذا التغليظ الشديد، وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر {إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45]، وكان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله: يا أبت يا أبت وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد، ولما قال له: {لأَرْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيّاً} [مريم: 46] قال: {سلام عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} [مريم: 47] وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهرون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً} [طه: 44] مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب، كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن الأب لا يقتل بابنه قصاصاً ولا يقيم الرجم عليه وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره والجواب: من وجوه:
أحدها: أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه، لأنه كان كالأب له، فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة، فصار بسبب تلك العداوة متهماً في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام، فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك.
وثانيها: أن الحكمة في ذلك، أن محمداً لو كان يداهن أحداً في الدين ويسامحه فيه، لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه، فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحداً في شيء يتعلق بالدين أصلاً.
وثالثها: أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض، فإن كونه عماً يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه، فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة، لا جرم استحق التغليظ العظيم.
السؤال الثالث: ما السبب في أنه لم يقل قل تبت يدا أبى لهب وتب وقال في سورة الكافرون: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون}؟
الجواب: من وجوه:
الأول: لأن قرابة العمومة تقتضي رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له: قل ذلك لئلا يكون مشافهاً لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماماً له.
الثاني: أن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله تعالى: يا محمد أجب عنهم: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} وفي هذه السورة طعنوا في محمد، فقال الله تعالى أسكت أنت فإني أشتمهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ}.
الثالث: لما شتموك، فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك، يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتاً، فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره، فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول، فقال أبو بكر: ما السبب في ذلك؟ قال: لأنك حين كنت ساكتاً كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان.
واعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان الله ذاباً عنه وناصراً له ومعيناً.
السؤال الرابع: ما الوجه في قراءة عبد الله بن كثير المكي حيث كان يقرأ: {أَبِى لَهَبٍ} ساكنة الهاء؟
الجواب: قال أبو علي: يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر، وأجمعوا في قوله: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] على فتح الهاء، وكذا قوله: {وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب} [المراسلات: 31] وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان، وقال غيره: إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لوفاق الفواصل.


{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما في قوله: {مَا أغنى} يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار، ويحتمل أن يكون نفياً، وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحد أكثر مالاً من قارون فهل دفع الموت عنه، ولا أعظم ملكاً من سليمان فهل دفع الموت عنه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخباراً بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.
المسألة الثانية: (ما كسب) مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه، يروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم ذكروا في المعنى وجوهاً: أحدها: لم ينفعه ماله وما كسب بماله يعني رأس المال والأرباح.
وثانيها: أن المال هو الماشية وما كسب من نسلها، ونتاجها، فإنه كان صاحب النعم والنتاج.
وثالثها: {مَالَهُ} الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه.
ورابعها: قال ابن عباس: {ما كسب} ولده، والدليل عليه قوله عليه السلام: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه».
وقال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك».
وروي أن بني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع: فغضب فقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث.
وخامسها: قال الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة رسول الله.
وسادسها: قال قتادة: {وَمَا كَسَبَ} أي عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23] وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: قال هاهنا: {مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} وقال في سورة: {واليل إِذَا يغشى} {وما يغني عنه ماله إذا تردى} [الليل: 1] فما الفرق؟
الجواب: التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله: {مَا أغنى عَنّى مَالِيَه} [الحاقة: 28] وقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1].
السؤال الثاني: ما أغنى عنه ماله وكسبه فيماذا؟
الجواب: قال بعضهم في عداوة الرسول: فلم يغلب عليه، وقال بعضهم: بل لم يغنيا عنه في دفع النار ولذلك قال: {سيصلى}.


{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)}
وفيه مسائل.
المسألة الأولى: لما أخبر تعالى عن حال أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه، أخبر عن حاله في المستقبل بأنه سيصلى ناراً.
المسألة الثانية: {سيصلى} قرئ بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً.
المسألة الثالثة: هذه الآيات تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسار، وقد كان كذلك.
وثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وقد كان كذلك.
روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه، وكان أبو لهب تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام، ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلاً آخر، فلما جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوة، وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة زمزم، فكنت جالساً هناك وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه، فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، فقال له أبو لهب: كيف الخبر يا ابن أخي؟ فقال: لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا، وأيم الله مع ذلك تأملت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: أولئك والله الملائكة، فأخذني وضربني على الأرض، ثم برك علي فضربني وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته، وقالت: تستضعفه إن غاب سيده، والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة، وقد صدق فيما قال: فانصرف ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته، ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون، وقالوا نخشى هذه القرحة، ثم دفنوه وتركوه، فهذا معنى قوله: {مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.
وثالثها: الإخبار بأنه من أهل النار، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.
المسألة الرابعة: احتج أهل السنة على وقوع تكليف مالا يطاق بأن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، فقد صار مكلفاً بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال. وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن أبو لهب لكان لهذا الخبر خبراً بأنه آمن، لا بأنه ما آمن، وأجاب القاضي عنه فقال: متى قيل: لو فعل الله ما أخبر أنه لا يفعله فكيف يكون؟ فجوابنا: أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم.
واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط، أما الأول: فلأن هذه الآية دالة على أن خبر الله عن عدم إيمانه واقع، والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين.
وأما الجواب الثاني: فأرك من الأول لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم، بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقاً، وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية، فكان التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفاً بالجمع بين الضدين، وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئاً أم بقي ساكتاً.

1 | 2